ما وقعت والله في ضيق قط إلا فرجه الله عني
ُمقالة رائعة للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله اذ كتب يقول
[color=blue]
[size=17]نظرت البارحة فإذا الغرفة دافئة والنار موقدة ، وأنا على أريكة مريحة ، أفكر في موضوع
أكتب فيه ، والمصباح إلى جانبي ، والهاتف قريب مني ، والأولاد يكتبون ، وأمهم تعالج صوفا
تحيكه ، وقد أكلنا وشربنا ، والراديو يهمس بصوت خافت ، وكل شيء هادئ ، وليس ما أشكو
منه أو أطلب زيادة عليه
فقلت الحمد لله
أخرجتها من قرارة قلبي ثم فكرت فرأيت أن ' الحمد ' ليس كلمة تقال باللسان ولو رددها اللسان ألف مرة ، ولكن
الحمد على النعم أن تفيض منها على المحتاج إليها
حمد الغني أن يعطي الفقراء ، وحمد القوي أن يساعد الضعفاء
وحمد الصحيح أن يعاون المرضى ، وحمد الحاكم أن يعدل في المحكومين
فهل أكون حامدا لله على هذه النعم إذا كنت أنا وأولادي في شبع ودفء وجاري وأولاده في
الجوع والبرد ؟ وإذا كان جاري لم يسألني أفلا يجب علي أنا أن أسأل عنه ؟
وسألتني زوجتي فيمَ تفكر ؟ فاخبرتها
قالت صحيح ، ولكن لا يكفي العباد إلا من خلقهم، ولو أردت أن تكفي جيرانك من الفقراء
لأفقرت نفسك قبل أن تغنيهم
قلت لو كنت غنيا لما استطعت أن أغنيهم ، فكيف وأنا رجل مستور ، يرزقني الله رزق الطير
تغدو خماصا ًوتروح بطاناً ؟
لا ، لا أريد أن أغني الفقراء ، بل أريد أن أقول إن المسائل نسبية
أنا بالنسبة إلى أرباب الآلاف المؤلفة فقير ، ولكني بالنسبة إلى العامل الذي يعيل عشرة
وما له إلا أجرته غني من الأغنياء ، وهذا العامل غني بالنسبة إلى الأرملة المفردة التي
لا مورد لها ولا مال في يدها ، وصاحب الآلاف فقير بالنسبة لصاحب الملايين ؛ فليس
في الدنيا فقير ولا غني فقرا مطلقا وغنىً مطلقا
تقولون : إن الطنطاوي يتفلسف اليوم
لا ؛ ما أتفلسف ، ولكن أحب أن أقول لكم إن كل واحد منكم وواحدة يستطيع أن يجد من هو
أفقر منه فيعطيه ، إذا لم يكن عندك – يا سيدتي – إلا خمسة أرغفة وصحن ' مجدّرة ' تستطيعين
أن تعطي رغيفا لمن ليس له شيء ، والذي بقي عنده بعد عشائه ثلاثة صحون من الفاصوليا
والرز وشيء من الفاكهة والحلو يستطيع أن يعطي منها قليلا لصاحبة الأرغفة والمجدّرة
ومهما كان المرء فقيرا فإنه يستطيع أن يعطي شيئا لمن هو أفقر منه
ولا تظنوا أن ما تعطونه يذهب بالمجان ، لا والله ، إنكم تقبضون الثمن أضعافا
تقبضونه في الدنيا قبل الآخرة ، ولقد جربت ذلك بنفسي
أنا أعمل وأكسب وأنفق على أهلي منذ أكثر من ثلاثين سنة ، وليس لي من أبواب الخير
والعبادة إلا أني أبذل في سبيل الله إن كان في يدي مال ، ولم أدخر في عمري شيئا وكانت
زوجتي تقول لي دائما يا رجل ، وفر واتخذ لبناتك دارا على الأقل
فأقول خليها على الله ، أتدرون ماذا كان ؟
لقد حسب الله لي ما أنفقته في سبيله وادخره لي في بنك الحسنات الذي يعطي أرباحا سنوية
قدرها سبعون ألفا في المئة ، نعم {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ}
وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}
أرسل الله صديقا لي سيدا كريما من أعيان دمشق فأقرضني ثمن الدار ، وأرسل أصدقاء
آخرين من المتفضلين فبنوا الدار حتى كملت وأنا – والله – لا أعرف من أمرها إلا ما يعرفه
المارة عليها من الطريق ، ثم أعان الله برزق حلال لم أكن محتسبا فوفيت ديونها جميعا ،
ومن شاء ذكرت له التفاصيل وسميت له الأسماء .
وما وقعت والله في ضيق قط إلا فرجه الله عني ، ولا احتجت لشيء إلا جاءني ، وكلما زاد
عندي شيء وأحببت أن أحفظه وضعته في هذا البنك .
فهل في الدنيا عاقل يعامل بنك المخلوق الذي يعطي 5%ربحاً حراماً وربما أفلس أو احترق
ويترك بنك الخالق الذي يعطي في كل مئة ربح قدره سبعون ألفا ؟
وهو مؤمن عليه عند رب العالمين فلا يفلس ولا يحترق ولا يأكل أموال الناس .
فلا تحسبوا أن الذي تعطونه يذهب هدرا، إن الله يخلفه في الدنيا قبل الآخرة
وأسوق لكم مثلا واحدا)